الجودة وما أدراك ما الجودة
بقلم نسرين مصلح
نتجاذب أطراف الحديث في سياقات متنوعة اجتماعية ومهنية معرجين على تدني الأداء عموما، لما لذلك من ارتباط بثقافة “الأوك” أو عدم ضرورة إتمام العمل على أكمل وجه على فرض أن أي ما نقوم به سيفي بالغرض، بل وأكثر من ذلك هناك من يربت على كتفه مهنئا نفسه بأن ما قام به دون حث نفسه على التعلم عساه يثري عمله بعلمٍ يفتح عيناه على سبيل لنتاج أفضل من هذا النتاج.
بالرغم من انتشار مناصري هذه المدرسة الفكرية التي تفي بالغرض دونما الالتفات لنوعية الأداء، إلاَّ أن عصفاً ذهنياً سريعاً أثناء اجتماعي الشهري بفريق عمل الشركة التي أدير حيال ما تعنيه لهم كلمة “الجودة”، كل من منظوره، كان كفافاً لكشف مختلف الزوايا التي يمكن تعريف الجودة من خلالها وكيف يعرف كل منا الجودة من خلال الآليات والمركبات التي تصل بنا إلى الرضا عن أدائنا.
ومع ما يقاسيه مجتمعنا جرَّاء إغفال الجودة في الأعمال، إلاَّ أن هذا النهج ليس متغلغلا كما يخيل لنا وأن مساعي الإصلاح قد تُؤتي أُكلها إن عملنا بأنفسنا على تطوير مفهموم الجودة في كل عمل نقوم به.
دائما ما نلوح بشعار الجودة والإتقان مُقرنيه، غالباً، بمفهوم الجودة بالأعمال الإنتاجية في المصانع والمعامل فبمثل هذه، دوائر لقياس وضبط الجودة، إلَّا أن هذه الكلمة رُباعية الحروف تمتد لأبعد من ذلك بكثير لتشمل جودة الحياة التي نقود دفتها في حين أن أي عمل نقوم به يعزز أو يهز ثقة الآخرين بقدرات من يدعى الجودة. ويمكن تقييم الجودة من خلال عدة صفات أخرى:
الجودة تنبع من رضا كل من نتعامل معهم من عملاء، أو أقرباء، أو أبناء، فالرضا من ثمار الجودة، ذاك العامل الذي يرفع سقف التوقعات ويُحفز في ذات الآن التقييم والتطوير الدائم.
الجودة في الشمولية وتجنب الانعزال أي بالتعرف على موضوع ما من ألفه إلى يائه وليس فقط الجزئية الخاصة بالشخص نفسه وأحيانا يحدث لبس ما بين التخصصية والمعرفة الشمولية؛ فالتخصصية مطلوبة جدا، نعم ثمة حاجة لتخصصية المحامي، والمبرمج، والمترجم، وغيرهم من التخصصات ولكن المعرفة بأساليب الإدارة، أو مهارات التواصل، أو قدرات إدارة العمل، ومعرفة ما يحدث قبل وبعد العمل أو المهمة لأمر بالغ الأهمية لرفع الجودة، فإن علم المترجم أن النص سيرسل للنشر مباشرة لبذل جهدا أكبر في البحث والتواصل مع كاتب النص بدلا من الاعتماد فقط على مهارته المتميزة في الترجمة.
الجودة تعني القيام بالعمل مرة واحدة فقط! وترتبط ارتباطاً وثيقا بالتعامل مع الوقت، فغالباً ما نقوم بأعمالنا سريعا مكتفين بحلول سريعة غير جذرية لما نقابله من مشاكل، فالقيام بالعمل مرة واحدة يجتث الإشكال من جذره ويوفر الجهد والتفكير بطروحات مختلفة على أمر تم أساسا استشكاف الحلول له سابقا، وتحاكي إجراءات العمل والتوثيق هذا الأمر من أجل القيام بالعمل مرة واحدة فقط.
الجودة تترعرع عند التخلص من سقوف الفكر، فإن تمكنا من تجنب رسم هذه الأسقف وتحديد أنفسنا بها نرى الجودة من منظور مختلف يسهم في رفع مستواها دوما. يستخدم مصطلح “تفوقت على نفسك” ويشير إلى أن الشخص عادة ما يتقن عمله ولكنه في هذه المرة جاء بما هو أفضل بكثير مما تصنعه يداه عادةً، يبرز هنا دور الفكر الحر في صقل الجودة؛ فما نقوم به على أكمل وجه اليوم يمكنه أن يكون مرة أخرى أفضل وأفضل في ظل اتباع معايير الجودة الذاتية وليست المعايير العامة المتعارف عليها. متى يترسخ مبدأ الجودة في حياتنا، نراه يتسلل لينطبق ليس على المهام فقط بل والمهارات، والعلم، والعلاقات المهنية الاجتماعية لتندمج بعد ذلك فكرة الإتقان اندماجاً تلقائيا وعضوياً في كافة مناحي الحياة.
ثمة الكثير من الصفات التي توازي مفهوم الجودة والإتقان كاحتساب الوقت ومقارنته بالجهد، وتقييم النتيجة المرجوة، والدقة، والجلَد، وهكذا لا تغدو كلمة جودة مجردة بل تجسيد وصنيعة لكل تلك الصفات الداعمة التي تبلور التفرد الذي نصبو إليه.
ولكن، كيف نصل إلى هذه الجودة؟ الأمر ليس صعباُ إذ يمكن التفكير بها من خلال أربعة مراحل متتالية؛ أولها توافر نية التعلم وبالتالي توظيف كافة المواقف لصالح التعلم والتنور، ومن ثم الملاحظة والاستفادة من كل ما يحدث في المحيط وتقييمه لخدمة التعلم وتنمية الفكر، بعد ذلك تأتي الأسئلة والاستفسار بدلاً من الاستنتاج الفردي، وأخيرا توجيه كل هذا التعلم لخدمة التنفيذ والإنتاج المتقن والأداء المُكلل بالجودة.
الجودة لا ترتبط بأشخاص محددين دون آخرين فهي تصف أداء العامل الذي يقتن بناء نظام الصرف الصحي، وتصف أداء شرطي المرور الذي يجنبنا الكوارث، وتصف أداء المسؤول المنتخب الذي يقود التغيير، وهي ذاتها التي تصف الوقت المميز الذي يقضيه الأهل مع الأبناء. تقع مسؤولية اعتناق ونشر ثقافة الجودة وإتقان العمل على كاهل كل فرد من أجل تقدم المجتمع والفكر.
نسرين مصلح، مؤسس ومدير عام شركة رتاج للحلول الإدارية في رام الله، وعضو مجلس إدارة جمعية المدربين الفلسطينيين.